حاكمية الذوق
لو أخذنا رجلين من بلدٍ واحد أو من بيت واحد ، ثم وضعناهما في إحدى بلدان العالم ولكننا جعلنا واحداً منهما في منزل بجوار نهر من أنهار هذه البلدة تحفُّه الأشجار والورود والحدائق والطيور، يخرج من مسكنه فيلتقي بنسيمها وهوائها وإيقاعات النهر تنادي سمعه ورائحة النرجس تفوح في أعطافه، وإذا نظر من شرفة المسكن فكأنما ينظر إلى لوحة فنّان وضع كل ما يمليه عليه الخيال من جمال في هذه الصورة.
وجعلنا أخاه في منزل بحي آخر يتناقض مع الصورة السابقة كل التناقض، فهو في حي تفوح منه رائحة المصانع ووقود السيارات المحترق، وتعلو به أصوات السيارات والعربات وأصوات الناس والإزعاج من كل مكان، وإذا ما التفت عن يمينه أو شماله رأى أكواماً من النفايات وأشكالاً من المخلفات، والحياة تكاد تكون جحيماً لا يطاق.
وبعد ذلك طلبنا من هذين الأخوين العودة إلى بلدهما ثم سألنا الأول كيف رأيت المدينة؟ وسألنا الآخر نفس السؤال فماذا ستكون الإجابة؟
من الطبيعي والبديهي أن الأول سيلقي مقطوعة أدبية تحكي ما رآه من الجمال وأن هذه المدينة هي أجمل مدينة ولن ينساها لأنه أحبها. أما الآخر فسيتكلم عنها بكل حنق وغضب وكراهية بل وسترى على قسمات وجهه دلائل التقزز والنفرة وأنه لن يعود إليها فهي مدينة لا تستحق أن تزار.
ولو ذهبنا إلى رحلة في مكان يحوز قسطاً من الجمال والراحة وأخذنا في هذه النزهة رجلين، الأول منهما في حالة نفسية هادئة خالي البال صفي النفس، والثاني يعاني من ملمّة ألمّت به أو مرض لا يفتر ألمه عنه، أو فقد للتو حبيباً أو قريباً فجاء إلى هذه النزهة كئيب النفس متكدّر الخاطر يرى كل شيء في الكون أسود اللّون، ثم سألنا الأول عن هذه النزهة والمكان الذي ذهبنا إليه فسيجيب قطعاً بجمال المكان ونجاح النزهة والراحة والسعادة التي وجدها. ولوسألنا الثاني عن النزهة فسوف تكون الإجابة بأنه مكان عادي ونزهة لم تكن موفّقة، ولم يشعر فيها بأي شعور سعيد، وأنها كانت فاشلة.
ولو دعي اثنان إلى وليمة فيها عدد من المدعوين، الأول منهما دمث الأخلاق واسع الصدر متسامح النفس رقيق الطبع شديد الاحتمال، والآخر أحمق سريع الغضب بغيض قاسي الطبع سيء الخلق، ثم سألنا الأول كيف رأيت المدعوين وكيف كانت السهرة فسيقول كانت سهرة عادية وكان فيها فلان وفلان لو لا الحياء من صاحب المنزل لأسكتهما وكان المجلس سخيفاً وصاحب البيت لم يفعل كذا وكذا، والمفروض أنه فعل كذا، ويصوّر هذا البغيض المكان بشكل غاية في السوء، ويجعل السهرة في نظر السائل قاتمة مؤسفة، ولو أخذنا رجلين أحدهما من هواة الزراعة والآخر من هواة الهندسة المعمارية ثم ذهبنا بهما إلى مدينة ريفية فسيقول الأول بأن هذه الأرض من أجمل ما رأى ويصفها بكل أوصاف الحسن، وأما الآخر فلن يبدي إعجابه بها وإن أبدى شيئاً من الإعجاب فلن يبدي ارتياحه لها كثيراً ولن يحرص على العودة إليها، ولو كانت المدينة من المدن الحديثة ذات الحضارة المعمارية لانعكس الانطباع وتغيّر الموقف.
ففي المثال الأول رأينا تأثير الجو المحيط بالإنسان على رؤيته وحكمه.
وفي المثال الثاني كان التأثير للحالة النفسية والظرف الشخصي.
وفي المثال الثالث جاءت الرؤية والحكم تبعاً للطبيعة الإنسانية والجبلّة الأخلاقية.
وفي المثال الرابع رأينا الحكم يتبع الثقافة والذوق والهواية.
قال أبو منصور الثعالبي رحمه الله في كتابه اللطف واللطائف: «قيل لمظلوم ما السرور؟ قال: عارض ظلم ينجاب، ودعاء مظلوم يستجاب، وقيل لطبيب ما السرور؟ قال: طبعٌ يقبل العلاج ومجلس يدفع الخلاج. وقيل لمضياف ما السرور؟ قال: كوم تنحر، ونار تسعر، وضيف ينزل. وقيل لعربي: ما السرور؟ قال: زوجة وسيمة، ونعمة جسيمة».
فكلٌ يصف الحياة والدنيا ويصور ما يراه بحسب حاله وطبيعته وثقافته. وإذا دخل البزاز والنجار والمزارع قصراً فإن البزاز لا يفتأ ينظر إلى الستائر والنمارق وما يدخل في صنعته من أقمشة وغيرها، وترى النجّار يقلب عينيه في الأبواب والنوافذ والموائد وكيف صنعت؟ ومن أي نوع صنعت؟. وكذلك المزارع في نظره إلى الحدائق والأزهار والشجر وأنواعه وطريقة سقيه ونوع تربته.
وعند أبي إسحاق القيرواني في جمع الجواهر باب كامل عن هذا كما عند الثعالبي في كتابه المذكور عن أرباب الصنائع والوظائف وأهل العادات وكيف تجري الأمثال على ألسنتهم من وحي ظروفهم وأحوالهم وعاداتهم، بل وتصبح في كلامهم عادة وجراية.
قيل لخباز: كم بيننا وبين دار فلان؟ فقال مقدار ما تأكل رغيفين.
والكلام يطول في ذلك وإنما أردنا الشاهد منها، وهو أثر التأثيرات النفسية والظروف والطبائع والأذواق في الرؤية والأحكام وصياغة التصور للأشياء والوقائع.
عدم الانتباه إلى هذه القضية يجعلنا نعيش في حالة من الذهول عن الحق لأن سيطرة الأذواق والنفسيات على العقول والقلوب تعمي عن معرفة الصواب، وتعطّل العقول عن الجوانب الأخرى الغائبة بسبب تحكم الطبائع والأذواق.
وحين ترى شخصاً متشدّداً في أحكامه والآخر متساهلاً فلا تظن أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك، ولكن تأكد بأن الطبيعة النفسية أو الظروف أو المجتمع هي التي صاغت من هذا متشدّداً ومن الآخر متساهلاً.
وفي واقع الفقه والعمل الإسلامي قديماً وحديثاً ما يتّضح به ويتجلّى هذا الأمر. فلو نظرت إلى المتشددين في الأحكام أو المواقف لوجدت أنهم لا يخرجون عن إحدى المؤثرات الأربع السالفة الذكر. وعندما تنظر إلى أهل الترخّص واليسر فهم كذلك في المؤثرات
وما ذكرناه لا يدعو إلى العجب أو الاستغراب فهي في الحقيقة من طباع البشر التي لا تنكر، وإنما المنكر في الأمر أن يرى كلًُ نفسه على الحق، ولا يرى غيره إلا خطاءً ضالاً هالكاً، وينسى أنه ليس بأفضل منه ولا بأحق ، ولكنها غلبة الأذواق واغتلام النفوس على العقول. ومما يقرّر حقيقة هذه الفكرة ما ورد في الحديث من نهي القاضي أن يقضي وهو غضبان، لأن الظرف النفسي في هذه الحالة يؤثر على الرؤية والحكم وتصور الخصومة، ولا يقضي وهو مصاب محزون أو وهو جائع غير شبعان كما في الحديث.
قال الإمام الماوردي رحمه الله في الحاوي: «فإذا لحق القاضي حال تغير فيها عقله أو خلقه أو فهمه من غضب أو حزن أو فرح أو مرض أو جوع أو عطش، توقف عن الحكم حتى يعود إلى سكون نفسه وكمال عقله وهدوء طبعه وظهور فهمه».
اعرض مسألة خلافية على مجموعة من أهل العلم واكتب الأدلة في القولين ثم اطلب ترجيحاً منهم، ستجد أنهم انقسموا إلى قسمين تبعاً لأدلة الفريقين مع استبعادنا الهوى والجهل عنهم، وغالباً سيكون في القسم الأول من المجموعة أهل تقوى وذكاء وعلم وفي القسم الآخر مثل هذه الصفات فما الذي اختلف إذن؟ إنها الرؤى والأحكام التي تنطلق من الطبيعة الخلقية أو الظروف المحيطة أو المشاهدات الواقعية أو الثقافة والموهبة والهواية.
ويوم أقرّ الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الصحابة الذين اختلفوا في تنفيذ أمره بصلاة العصر في بني قريظة أراد أن يقيم لنا مبدأ مهماً وهو أن الناس يختلفون في صياغة التصور والرؤية للأمر والنهي ما لم يكن قاطعاً لا يحتمل الظن والتأويل.
ولقد ابتلينا بأصناف من الخلق جعلوا أمراضهم النفسية أو ظروفهم القاسية أو المؤثرات الأخرى ميزاناً للشريعة ودالاً عليها، ولهذا تراهم يصفون من خالفهم بالجهل والخطأ والضلال، وعندما تستعرض أدلتهم وأقوالهم تقرّ عيناً بما أعطاك الله من فهم للحق لشدّة ضعفها علمياً وعقلياً، وإن اتهمني المخالف بأنني أنطلق من مؤثراتي الخاصة فلن أنكر ذلك ولكن يكفيني أن لاأسم الناس بالضلال أو أتعامل معهم على أنهم أعداء لله ورسوله. والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، ولنا في أنبيائه أسوة حسنة حيث قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }.
بعض الوعاظ وأنصاف المتعلمين يحاولون إخفاء كثيراً من الأدلة التي تخالف طبائعهم وأمزجتهم، فإذا ما عرضت عليهم أحاديث البخاري في سماع الرسول صلى الله عليه وسلم لغناء الجاريتين أو لغناء الجواري وهن يضربن بالدف في زواج الربيع بنت معوذ، أو أنه كان يردد الحداء مع الصحابة في بناء المسجد أو في السير مع الجيش رأيت هؤلاء يضربون شرقاً وغرباً هروباً من هذه الأحاديث التي لا تهضمها أمزجتهم وأذواقهم وطبيعتهم الاجتماعية.
وعندما أتحاور مع بعض شباب الصحوة وانتصر عليهم بنقض أدلتهم في مسألة ما يهربون إلى قولتهم المشهورة ولكن ذلك لا يليق ولا ينبغي، بعد ذلك آتيهم بالأدلة فيحسّون بالملل والضيق.
لما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الإقعاء بين السجدتين قال: سنة، فقالوا له: إنا نرى ذلك من الهجر، قال: هي سنة نبيكم، فهو رضي الله عنه يقول لهم: اتركوا ما ترونه وما تعوّدتم عليه واتبعوا السنة، والعجب ممّن يدّعون السنة ثم يخالفونها بالأذواق ويلوون أعناق الأدلة كي توافق ما هم عليه.
وكم من أفعال تعضدها الأدلة وتوافقها أفعال الصحابة ينكر هؤلاء على فاعليها ويقيمون ضدهم الحروب ويستبيحون أعراضهم وهتك أستارهم، وهذا واقع لا مبالغة فيه.
وأكثر المشكلات التي نواجهها من أولئك الذين عاشوا على قواعد عريضة من العادات والقيم فإذا ما اتجهوا إلى الالتزام وإتباع السنة أضافوا على ذلك ما يعتقدونه من أذواق وطبائع فيصبح إفهامهم من أشد الأمور.
الأئمة الفقهاء - رضي الله عنهم - كان أكثرهم يتغير قوله بعد حين فيفتي بغير ما أفتى به من قبل، وليس ذلك لحصولهم على أدلة جديدة في الغالب، بل هي ذات الأدلة أو هي مسألة اجتهادية لا دليل عليها، ولكن اختلاف النظرة وتغير المؤثرات جعلت كل إمام ينظر نظرة جديدة أكثر شمولاً، وقد كان للإمام الشافعي رضي الله عنه مذهبان مذهب في العراق، ومذهب في مصر.
إن الله - عز وجل - يغفر للمجتهد خطأه برغم هذه المؤثرات في الفكرة والرؤية والحكم وإن كان الصواب في خلاف ما ذهب إليه، ولا يكلف نفساً إلا وسعها.
وهنا برزخ وحاجز لا يكاد يُرى بين المؤثرات وبين الهوى وحظّ النفس في صدور الرؤية والحكم على الأمور، لا يستطيع أحد الخروج من ذلك المأزق إلا بالتمحض والتجرد والتغلّب على أهواء النفس وحظوظها بعد ذلك لا يضر المؤمن أن يتأثر في حكمه بطبيعته البشرية أو بما يحيط به.